قصص عن اكتئاب ما بعد الولادة

قصص واقعية عن اكتئاب ما بعد الولادة: تجربة الأمومة بين الأمل والخذلان النفسي

تُعدّ فترة ما بعد الولادة من أكثر المراحل حساسية وتعقيدًا في حياة المرأة، حيث يلتقي الفرح بقدوم المولود الجديد مع تغيرات بيولوجية ونفسية عميقة قد تتحول إلى تجربة مؤلمة تُعرف باسم “اكتئاب ما بعد الولادة”. هذا النوع من الاكتئاب لا يُعدّ ضعفًا في الشخصية أو قلة محبة للأبناء، بل هو اضطراب نفسي حقيقي يؤثر على حياة الآلاف من النساء سنويًا، مهما كانت خلفياتهنّ الاجتماعية أو الثقافية. وسنعرض هنا قصصًا حقيقية تعكس عمق المعاناة التي قد تمر بها الأمهات بعد الولادة، مركّزين على الأبعاد النفسية والاجتماعية والبيولوجية لهذه الظاهرة، وتداعياتها على الأم والطفل والأسرة بأكملها.

القصة الأولى: “نورهان – عندما يتحول الحلم إلى عبء”

نورهان، معلمة في الثلاثينات من عمرها، كانت دائمًا تتطلع إلى الأمومة كأسمى ما يمكن للمرأة أن تحققه. حملها الأول جاء بعد خمس سنوات من الزواج، فكانت فرحتها لا توصف، وتلقت التهاني من الأهل والأصدقاء. ولكن، بعد ولادتها القيصرية الصعبة، بدأت تشعر بمزيج غريب من اللامبالاة والحزن العميق. تقول نورهان: “كنت أنظر إلى ابني دون أن أشعر بذلك الحب الفطري الذي تحدثت عنه أمي وصديقاتي… شعرت وكأنني مجرد آلة أنجبت طفلًا لا أملك أي علاقة عاطفية به”.

ومع مرور الأسابيع، بدأت أعراضها تتفاقم: بكاء مستمر، أرق، فقدان شهية، شعور بالذنب وعدم الكفاءة كأم. حاولت العائلة مساعدتها لكنهم لم يدركوا خطورة الموقف، فكانوا يرددون عبارات من قبيل: “شدّي حالك”، “كله طبيعي بعد الولادة”. لم تحصل نورهان على المساعدة المتخصصة إلا بعد مرور أربعة أشهر، حين أدت نوبة هلع مفاجئة إلى نقلها للطوارئ. التشخيص كان واضحًا: اكتئاب حاد بعد الولادة. خضعت للعلاج النفسي والدعم الدوائي، واستغرقت رحلة تعافيها أكثر من عام.

القصة الثانية: “سارة – خلف جدران الصمت”

سارة شابة عشرينية من بيئة محافظة، تزوجت مبكرًا وانتقلت للعيش في مدينة زوجها بعيدًا عن أهلها. بعد ولادة طفلتها الأولى، بدأت تشعر بعزلة خانقة. لم يكن لها دعم اجتماعي حقيقي، وكان زوجها يعتقد أن مشاعرها مجرد “دلع ما بعد الولادة”.

تصف سارة أيامها الأولى قائلة: “كنت أستيقظ من نومي باكية دون سبب، أنظر لطفلتي ولا أجد الطاقة لحملها، حتى الاهتمام بنفسي لم أعد قادرة عليه. رغبتي في الانتحار كانت تزداد كل يوم، لكنني كنت أكتم كل ذلك”. سارة عانت بصمت لأشهر، حتى تواصلت مع مجموعة دعم على الإنترنت حيث أدركت أنها ليست الوحيدة، وأن هناك اسمًا لما تشعر به.

بدأت ببطء في البحث عن حلول، وتمكنت بعد وقت من الذهاب لطبيبة نفسية دون علم زوجها. العلاج السلوكي المعرفي كان خطوة فارقة في إعادة بناء صورتها الذاتية كأم وإنسانة، واستعادت توازنها تدريجيًا بعد أشهر من العمل النفسي المكثف.

القصة الثالثة: “رُبى – وهم القوة المطلقة”

رُبى، موظفة في بنك وأم لطفلين، أنجبت طفلها الثالث في منتصف فترة مزدحمة من حياتها المهنية. كانت دومًا تُعرّف نفسها بأنها “المرأة الخارقة” التي تستطيع التوفيق بين العمل والمنزل والتربية دون مساعدة. بعد ولادة طفلها الثالث، قررت العودة إلى العمل بعد شهرين فقط، غير مدركة أن جسدها ونفسيتها لم يتعافيا بعد.

“لم أكن أسمح لنفسي بالانهيار، لكني كنت أعيش في حالة احتراق داخلي مستمر”، تقول رُبى. كانت تتعرض لنوبات غضب حادة، وتفقد السيطرة أمام أبنائها، وتعاني من خمول شديد وصعوبة في التركيز. تدهورت علاقتها بزوجها وأصدقائها، وبدأت تشعر بأنها “آلة تعمل فقط دون روح”.

الضغط المتراكم أدى إلى انهيار عصبي تطلب دخول مركز للعلاج النفسي لمدة قصيرة، وهناك أدركت أنها كانت تهرب من الاعتراف بمشكلتها خوفًا من وصمة المجتمع واتهامها بالفشل كأم. بعد العلاج، أصبحت رُبى من الناشطات في توعية الأمهات عن أهمية الصحة النفسية بعد الولادة.

القصة الرابعة: “ليلى – اكتئاب في صمت الأرامل”

ليلى أرملة شابة فقدت زوجها قبل أشهر من ولادتها، فوجدت نفسها وحيدة مع آلام الفقد والولادة والمسؤولية. تقول: “كنت أتنفس من أجل طفلي فقط، لكنني في داخلي كنت ميتة”. لم يكن لديها من يساعدها أو يفهم معاناتها، وكانت الأسرة تركز فقط على مسؤولياتها تجاه الطفل، دون أن تلتفت لاحتياجاتها النفسية.

ليلى مرت بمراحل متقدمة من الاكتئاب، حيث دخلت في نوبات اكتئاب ذهانية لفترات قصيرة، وشعرت أنها ترى أشياء غير موجودة وتسمع صوت زوجها الراحل. أدركت إحدى صديقاتها الوضع وساعدتها على زيارة طبيب نفسي متخصص. احتاجت ليلى إلى علاج دوائي مستمر ودعم اجتماعي واسع حتى استعادت هدوءها الداخلي بعد أكثر من عامين.

الجدول التالي يلخص أعراض الاكتئاب الشائعة في القصص المذكورة:

البعد الثقافي والاجتماعي في فهم اكتئاب ما بعد الولادة

في المجتمعات العربية، لا يزال الحديث عن الصحة النفسية – وخاصة لدى النساء – محاطًا بالكثير من التحفظات. يُنظر إلى الأمومة كفطرة يجب أن تسير بسلاسة، ومن تعاني من اضطرابات نفسية بعد الولادة تُوصم أحيانًا بالضعف أو التقصير. هذه النظرة تساهم في صمت كثير من الأمهات عن معاناتهنّ، مما يؤدي إلى تأخر التشخيص والعلاج، وتفاقم الحالة.

التجارب السابقة تبرهن على أهمية نشر الوعي حول هذا النوع من الاكتئاب كحالة طبية تستحق التعاطف والعلاج، وليس الإنكار أو التقليل. الدعم النفسي من الأسرة، خاصة من الزوج والأم، يلعب دورًا محوريًا في تجاوز المرحلة. كذلك، تمثل مجموعات الدعم عبر الإنترنت فرصة حقيقية لتبادل التجارب وكسر العزلة النفسية.

المقاربة الطبية والعلاجية: بين الدواء والدعم النفسي

من الناحية الطبية، يتطلب اكتئاب ما بعد الولادة تشخيصًا دقيقًا يفرق بين “الكآبة النفاسية” العابرة (baby blues) التي تزول خلال أيام، وبين الاكتئاب الحاد المستمر الذي قد يمتد لأشهر. يشمل العلاج عادة:

• الأدوية المضادة للاكتئاب: تُستخدم بحذر مع مراعاة الرضاعة الطبيعية.

• العلاج السلوكي المعرفي: يهدف إلى تعديل أنماط التفكير السلبية.

• العلاج الأسري: يدمج الشريك أو الأسرة في خطة العلاج.

• العلاج الهرموني: في بعض الحالات، خاصة عند وجود خلل في التوازن الهرموني.

• العلاج بالفن والكتابة: أثبت فعالية في مساعدة الأمهات على التعبير عن مشاعرهن.

المراجع

1. O’Hara, M. W., & McCabe, J. E. (2013). Postpartum depression: Current status and future directions. Annual Review of Clinical Psychology, 9, 379–407.

2. Stewart, D. E., & Vigod, S. N. (2016). Postpartum Depression: Pathophysiology, Treatment, and Emerging Therapeutics. Annual Review of Medicine, 67, 1–13.